فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{أَفَلاَ ينظرون إِلَى الإبل كَيْفَ خلقت}
استئنافٌ مسوقٌ لتقريرِ ما فصلَ من {حديث الغاشية} وما هو مبنيٌّ عليهِ من البعثِ الذي هم فيه مختلفونَ بالاستشهادِ عليهِ بما لا يستطيعونَ إنكارَهُ. والهمزةُ للإنكارِ والتوبيخِ، والفاءُ للعطف على مقدر يقتضيهِ المقامُ وكلمة كيفَ منصوبةٌ بما بعدَها كما في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} معلقةٌ لفعلِ النظرِ، والجملة في حيزِ الجرِّ على أنَّها بدلُ اشتمالٍ من {الإبل} أي أينكرونَ ما ذُكِرَ من البعثِ وأحكامِه ويستبعدونَ وقوعَهُ من قدرةِ الله عزَّ وجلَّ فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونَها كلَّ حينٍ إلى أنَّها {كيفَ خلقت} خلقاً بديعاً معدولاً بهِ عن سُننِ خلقةِ سائرِ أنواعِ الحيواناتِ في عظمِ جثتِها وشدةِ قوتِها وعجيبِ هيأتِها اللائقةِ بتأتِّي ما يصدرُ عنها من الأفاعيلِ الشاقةِ كالنوءِ بأوقارِها الثقيلةِ وجرِّ الأثقال الفادحةِ إلى الأقطارِ النازحةِ وفي صبرِها على الجوع والعطشِ حتى إن أظماءَها لتبلغُ العشر فصاعداً واكتفائِها باليسيرِ ورعيها لكلِّ ما يتيسر من شوكٍ وشجرٍ وغيرِ ذلكَ مما لا يكادُ يرعاهُ سائرُ البهائمِ وفي انقيادِها مع ذلكَ للإنسانِ في الحركةِ والسكونِ والبروكِ والنهوضِ حيثُ يستعملُها في ذلكَ كيفما يشاءُ ويقتادُها بقطارِها كلُّ صغيرٍ وكبيرٍ.
{وَإِلَى السماء} التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار {كَيْفَ رفعت} رفعاً سحيق المدى بلا عمادٍ ولا مساكٍ بحيث لا يناله الفهم والادراك.
{وَإِلَى الجبال} التي ينزلون في أقطارها وينتفعون بمياهها وأشجارها {كَيْفَ نصبت} نصباً رصيناً فهيَ راسخةٌ لا تميلُ ولا تميدُ {وَإِلَى الأرض} التي يضربونَ فيها ويتقلبونَ عليها {كَيْفَ سطحت} سطحاً بتوطئةٍ وتمهيدٍ وتسويةٍ وتوطيدٍ حسبما يقتضيهِ صلاحُ أمورِ ما عليها من الخلائقِ. وقرئ {سطحت} مُشدداً وقرئتْ الأفعالُ الأربعةُ على بناءِ الفاعلِ للمتكلمِ، وحذف الراجعِ المنصوبِ. والمعنى أفلا ينظرون نظرَ التدبرِ والاعتبارِ إلى كيفيةِ خلق هذه المخلوقاتِ الشاهدةِ بحقيةِ البعثِ والنشورِ ليرجعُوا عمَّا هُم عليهِ من الإنكارِ والنفورِ ويسمعُوا إنذاركَ ويستعدُّوا للقائِه بالإيمان والطاعةِ. والفاءُ في قوله تعالى: {فذكر} لترتيبِ الأمرِ بالتذكيرِ على ما ينبئ عنه الإنكارُ السابقُ من عدمِ النظرِ أي فاقتصرْ على التذكيرِ ولا تلحَّ عليهم ولا يُهمنَّكَ أنَّهم لا ينظرون ولا يتذكرونَ. وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مذكر} تعليلٌ للأمرِ. وقوله تعالى: {لَّسْتَ عَلَيْهِم} تقريرٌ لهُ وتحقيقٌ لمَعْنى الإنذارِ أي لستَ بمتسلطٍ عليهم تجبرُهم على ما تريدُ كقوله تعالى: {يَقولونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} وقرئ بالسينِ على الأصلِ بالإشمامِ، وقرئ بفتحِ الطاءِ قيلَ: هي لغةُ بني تميمٍ فإنَّ سيطرَ عندهم متعدَ ومنه قولهم: تسيطرُ. وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن تولى وكفر} استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ من تولى منهم فإنَّ لله تعالى الولايةَ والقهرَ.
{فَيْعَذّبُهُ الله العذاب الأكبر} الذي هُو عذاب جهنمَ وقيلَ: استثناءٌ مُتَّصلٌ من قوله تعالى: {فذكر} أي فذكر إلاَّ من انقطعَ طمعُكَ من إيمانِه وتولى فاستحقَّ العذاب الأكبر وما بينهما اعتراضٌ ويعضدُ الأولَ أنه قرئ {أَلاَ} على التنبيهِ. وقوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إيابهم} تعليلٌ لتعذيبِه تعالى بالعذاب الأكبر أيْ إنَّ إلينا رجوعهُم بالموتِ والبعثِ لا إلى أحد سوانا لا استقلالاً ولا اشتراكاً. وجمعُ الضمير فيه وفيما بعدَهُ باعتبارِ مَعْنى مَنْ كما أنَّ إفرادَهُ فيما سبقَ باعتبارِ لفظِها. وقرئ {إيابهم} على أنَّه فِيْعَالٌ مصدرُ فَيْعَلٍ من الإيابِ، أو فِعَّالٌ من أَوَبَ كفِسَّارٍ من فَسَرَ ثمَّ قيلَ: إِيْوَاباً كدِيُوَانٍ في دِوَّانٍ ثُمَّ قُلبتْ الواوُ ياءً فأدغمتِ الياءُ الأولى في الثانية {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حسابهم} في المحشرِ لا على غيرِنا وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ لا في الزمانِ فإن الترتبَ الزمانيَّ بين {إيابهم} و{حسابهم} لا بينَ كونِ {إيابهم} إليهِ تعالى و{حسابهم} عليهِ تعالى فإنَّهما أمرانِ مستمرانِ. وفي تصديرِ الجملتينِ بأنَّ وتقديمُ خبرِها وعطف الثانية على الأولى بكلمةِ {ثُمَّ} المفيدةِ لبعدِ منزلةِ الحسابِ في الشدةِ من الإنباءِ عن غايةِ السخطِ الموجبِ لتشديدِ العذاب ما لا يخفى. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَفَلاَ ينظرون إِلَى الإبل كَيْفَ خلقت}
استئناف مسوق لتقرير ما فصل من {حديث الغاشبة} وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال لما نعت الله تعالى ما في الجنة عجب من ذلك أهل الضلالة فأنزل سبحانه وتعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ} إلخ ويرجع هذا في الآخرة إلى إنكار البعث كما لا يخفى والهمزة للإنكار والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وكملة كيف منصوبة بما بعدها على أنها حال من مرفوع خلقت كما في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28] معلقة لفعل النظر والجملة بدل اشتمال من {الإبل}.
وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها كقولهم: عرفت زيداً أبو من هو على أصح الأقوال على أن العرب قد أدخلت إلى على كيف بلا واسطة إبدال كما أدخلت عليها على فحكى عنهم أنهم قالوا: انظر إلى كيف يصنع كما حكي عنهم أنهم قالوا على كيف تبيع الأحمرين وذكر أبو حيان في (البحر) والتذكرة وغيرهما أنه إذا علق الفعل عما فيه الاستفهام لم يبق الاستفهام على حقيقته وقيل كيف بدل من الإبل وتعقبه في (المغني) بما في بعضه نظر وجوز في (مجمع البيان) كونها في موضع نصب على المصدر وهو كما ترى والإبل يقع على البعران الكثيرة ولا واحد له من لفظه وهو مؤنث ولذا إذا صغر دخلته التاء فقالوا أبيلة وقالوا في الجمع آبال وقد اشتقوا من لفظه فقالوا أبل وتابل الرجل وتعجبوا من هذا الفعل على غير قياس فقالوا ما آبل زيداً ولم يحفظ سيبويه فيما قيل اسماً جاء على فعل بكسر الفاء والعين غير ابل أي أينكرون ما أشير إليه من البعث وأحكامه ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز وجل فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين كيف خلقت خلقاً بديعاً معدولاً به عن سنن خلق أكثر أنواع الحيوانات في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيآتها اللائقة بتأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة كالنوء بالأوقار الثقيلة وهي باركة وإيصالها الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة وفي صبرها على الجوع والعطش حتى إن ظمأها ليبلغ العشر بكسر فسكون وهو ثمانية أيام بين الوردين وربما يجوز ذلك وتسمى حينئذٍ الحوازي بالحاء المهملة والزاي واكتفائها بالسير ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم وفي انقيادها مع ذلك للإنسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض حيث يستعملها في ذلك كيف يشاء ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير وفي تأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها إلى غير ذلك وخصت بالذكر لأنها أعجب ما عند العرب من الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً ولهم على أحوالها أتم وقوف وعن الحسن أنها خصت بالذكر لأنها تأكل النوى وألقت وتخرج اللبن وقيل له الفيل أعظم في الأعجوبة فقال العرب بعيدة العهد بالفيل ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره أي على نحو ما يركب ظهر البعير من غير مشقة في ترييضه ولا يحلب دره وقال أبو العباس المبرد الإبل هنا السحاب لأن العرب قد تسميها بذلك إذ تأتي إرسالاً كالإبل وتزجى كما تزجى الإبل وهي في هيآتها أحياناً تشبه الإبل يعني أن إرادته منها هنا على طريق التشبيه والمجاز وكأنه كما قال الزمخشري لم يدع القائل بذلك إلا طلب المناسبة بين المتعاطفات على ما يقتضيه قانون البلاغة وهي حاصلة مع بقاء الإبل في عطنها.
قال الإمام التناسب فيها أن الكلام مع العرب وهم أهل أسفار على الإبل في البراري فربما انفردوا فيها والمنفرد يتفكر لعدم رفيق يحادثه وشاغل يشغله فيتفكر فيما يقع عليه طرفه فإذا نظر لما معه رأى الإبل وإذا نظر لما فوقه رأى السماء وإذا نظر يميناً وشمالاً رأى الجبال وإذا نظر لأسفل رأى الأرض فأمر بالنظر في خلوته لما يتعلق به النظر من هذه الأمور فبينها مناسبة بهذا الاعتبار.
وقال عصام الدين: إن خيال العرب جامع بين الأربعة لأن مالهم النفيس الإبل ومدار السقي لهم على السماء ورعيهم في الأرض وحفظ مالهم بالجبال وما ألطف ذكر الإبل بعد ذكر الضريع فإن خطورها بعده على طرف الثمام وإذا صح ما روي من كلام قريش عند نزول تلك الآية كان ذكرها ألطف وألطف وقرأ الأصمعي عن أبي عمرو {إلى الإبل} بسكون الباء وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إبل بتشديد اللام ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي وقالوا: إنها السحاب عن قوم من أهل اللغة.
{وَإِلَى السماء} التي يشاهدونها ليلاً ونهاراً {كَيْفَ رفعت} رفعاً سحيق المدى بلا عماد ولا مساك بحيث لا يناله الفهم والإدراك.
{وَإِلَى الجبال} التي ينزلون في أقطارها وينتفعون بمائها وأشجارها {كَيْفَ نصبت} وضعت وضعاً ثابتاً يتأتى معه ارتقاؤها فلا تميل ولا تميد ويمكن الرقي إلى دارها.
{وَإِلَى الأرض} التي يضربون فيها ويتقلبون عليها {كَيْفَ سطحت} سطحاً بتوطئة وتمهيد وتسوية وتوطيد حسبما يقتضيه صلاح أمور أهلها ولا ينافي ذلك القول بأنها قريبة من الكرة الحقيقية لمكان عظمها.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وأبو حيوة وابن أبي عبلة {خلقت} {رفعت} {نصبت} {سطحت} بتاء المتكلم مبنياً للفاعل والمفعول ضمير محذوف وهو العائد إلى المبدل منه بدل اشتمال أي خلقتها رفعتها نصبتها سطحتها.
وقرأ الحسن وهارون الرشيد {سطحت} بتشديد الطاء والمعنى أفلا ينظرون نظر التدبر والاعتبار إلى كيفية خلق هذه المخلوقات الشاهدة بحقية البعث والنشور ليرجعوا عما هم عليه من الإنكار والنفور ويسمعوا إنذارك ويستعدوا للقائه بالإيمان والطاعة وجوز أن يحمل النظر على الإبصار ويكون فيه دعوى ظهور المطلوب بحيث يظهر بمجرد أبصار هذه المخلوقات وهو خلاف الظاهر والفاء في قوله تعالى: {فذكر} لترتيب الأمر بالتذكير على ما ينبئ عنه الإنكار السابق من عدم النظر أي فاقتصر على التذكير ولا تلح عليهم ولا يهمنك أنهم لا ينظرون ولا يتذكرون وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مذكر} تعليل للأمر وقوله سبحانه: {لَّسْتَ عَلَيْهِم} تقرير له وتحقيق لمعنى الإنذار أي لست بمتسلط عليهم تجبرهم على ما تريد كقوله تعالى: {وما أنت عليهم بجبار} [ق: 45].
وقرأ الجمهور {بمصيطر} بالصاد وكسر الطاء والأصل السين والصاد بدل منه فإنه من السطر بمعنى التسلط يقال سطر عليه إذا تسلط.
وقرأ حمزة في رواية بإشمام الصاد زاياً وهارون بفتح الطاء وهي لغة تميم وسيطر متعد عندهم ويدل عليه قولهم تسيطر لمكان المطاوعة وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن تولى وكفر} قيل استثناء منقطع و{إلا} فيه بمعنى لكن و{من} موصولة مبتدأ وما بعدها صلة والعائد الضمير المستتر فيه.
وقوله تعالى: {فَيْعَذّبُهُ الله العذاب الأكبر} خبر المبتدأ والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط نحو الذي يأتيني فله درهم وجعل من شرطية يبعده وجود الفاء فيما يصلح لجوابيتها بدونها وتقدير فهو يعذبه تكلف مستغنى عنه وأياً ما كان فمن المنقطع ما يقع بعد إلا فيه جملة أي لكن من أعرض وأقام على الكفر منهم يعذبه الله تعالى العذاب الأكبر وهذا عذاب الآخرة في النار فإنه الأكبر وعذاب الدنيا بالنسبة إليه أصغر وجعل الزمخشري الانقطاع على معنى لست بمستول عليهم لكن من تولى وكفر منهم فإن لله تعالى الولاية عليه والقهر فيعذبه في نار جهنم ولم يجعل على ما قيل متصلاً لأنه يلزم عليه كونه صلى الله عليه وسلم مستوليا علي من تولى وقد حصرت الولاية به تعالى وجوز اتصاله بأن يكون من ضمير {عليهم} فيكون من في محل جر تابعاً له وتسلطه صلى الله عليه وسلم على المتولي باعتبار جهاده وقتله الذي وعد به عليه الصلاة والسلام ولا ينافي حصر الولاية به تعالى لأنه بأمره عز وجل فكأنه قيل لست عليهم بمسيطر إلا على من تولى وأقام على الكفر فإنك متسلط عليه بما يؤذن لك من جهاده وقتله وسبيه وأسره وبعد ذلك يعذبه الله تعالى في جهنم فيكون في الآية إيعاد لهم بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة وجوز أن يكون إبعاداً بالجهاد فقط على أن المراد بالعذاب الأكبر القتل وسبي النساء والأولاد وسائر ما يترتب على الجهاد من البلايا فيكون فيه إشارة إلى أن هذه الأمة أكبر عذابهم في الدنيا ذلك لا ما كان في الأمم السابقة من الخسف والمسخ ونحوهما وأقيم فيعذبه إلخ مقام فتكون عليه متسلطاً إيذاناً بأن ذلك من قبله عز وجل حتى كأنه صلى الله عليه وسلم لا دخل له فيه وقال عصام الدين في كون الاستثناء منقطعاً اشكال لأن المستثنى المنقطع هو المذكور بعداً لا غير مخرج عن متعدد قبله لعدم دخوله فيه مخالف له في الحكم وليس من تولى وكفر خارجاً عن قوله تعالى: {عليهم} وليس حكمهم مخالفاً له ثم أجاب بأن الاستثناء المنقطع قد يكون لدفع توهم ناشئ مما سبق من غير أن يخالف المستثنى منه في الحكم فالواجب ذكر حكم له ليعلم أنه ليس حكمه مخالفاً لحكم المستثنى منه فكأنه هاهنا لدفع توهم التعذيب فتأمل.
وجوز كون الاستثناء متصلاً من قوله تعالى: {فذكر} ومن موصولة لا غير والمراد بالعذاب استحقاق العذاب أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه و{تولى} فاستحق {العذاب الأكبر} وقوله: {إِنَّمَا أَنتَ} إلخ على هذا اعتراض ورجح الانقطاع بأن ابن عباس وزيد بن علي وقتادة وزيد بن أسلم قرؤا {ألا} حرف تنبيه واستفتاح وقوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إيابهم} تعليل لتعذيبه تعالى إياهم بالعذاب الأكبر وإياب مصدر آب أي رجع أي إن إلينا رجوعهم بالموت والبعث لا إلى أحد سوانا لا استقلالاً ولا اشتراكاً وجمع الضمير فيه وفيما بعده باعتبار معنى من كما أن أفراده فيما سبق باعتبار لفظها وقرأ أبو جعفر وشيبة إيابهم بتشديد الياء قال البطليوسي في كتاب (المثلثات) هذه القراءة تحتمل تأويلين أحدهما أن يكون إياب بالتشديد فعالاً من أوب على زنة فعل ككذب كذاباً وأصله أواب فلم يعتد بالواو الأولى حاجزاً لضعفها بالسكون فأبدل من الواو الثانية ياء لأنكسار الهمزة فصار في التقدير أوياباً ثم قلبت الأولى ياء أيضًا لاجتماع ياء وواو وسكون أحداهما ولأن الواو الأولى إذا لم تمنع من انقلاب الثانية فهي أجدر بالانقلاب والثاني أن يكون فيعالاً وأصله أيواباً فاعل اعلال سيد وفعله على هذا أيب على وزن فيعل كحوقل حيقالاً من الإياب وأصله أيوب فأعل كما ذكرنا والوجه الأول أقيس لأنهم قالوا في مصدره التأويب والتفعيل مصدر فعل لا فيعل ومع ذلك فقد قالوا هو سريع الأوبة والأيبة فكأنهم آثروا الياء لخفتها انتهى.
وقد ذكر هذين الوجهين الزمخشري إلا أنه في الأول منهما يجوز أن يكون أصله أواباً فعالاً من أوب ثم قيل إيواباً كديوان في دوان ثم فعل به ما فعل بأصل سيد وظاهره أن الواو الأولى هي التي قلبت أولاً ياء واعترض بأن المقرر أن الواو الأولى إذا كانت موضوعة على الإدغام وجاء ما قبلها مكسوراً لا تقلب ياء لأجل الكسر كما في اخرواط مصدر اخروط وأن ديواناً إذا كان مذكوراً للقياس عليه لا للتنظير لا يصلح لذلك لنصهم على شذوذه وكأن البطليوسي عدل إلى ما عدل لذلك وفي (الكشف) لو جعل مصدر فاعل من الأوب فقد جاء فيه فيعال حتى قال بعضهم: إن فعالاً مخفف عنه لكان أظهر لأن فيعل لا يثبت إلا بثبت والأول كالمنقاس ومعنى المفاعلة حينئذٍ إما المبالغة وإما مسابقة بعضهم بعضاً في الأوب وأما جعله فعالاً على ما قرر الزمخشري فأبعد إلى آخر كلامه وكونه من فاعل جوزه ابن عطية أيضًا لكنه قال ويصح أن يكون من آوب فيجيء إيواباً سهلت همزته وكان اللازم في الإدغام يردها أواباً لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس فاعترضه أبو حيان بأن قوله وكان اللازم إلخ ليس بصحيح بل اللازم إذا اعتبر الإدغام أن يكون إياباً لأنه قد اجتمعت ياء وهي المبدلة من الهمزة بالتسهيل وواو وهي عين الكلمة واحداهما ساكنة فتقلب الواو ياء وتدغم فيها الياء فيصير إياباً فلا تغفل.
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حسابهم} في المحشر لا على غيرنا وثم للتراخي الرتبي لا الزماني فإن الترتيب الزماني بين {إيابهم} و{حسابهم} لا بين كون {إيابهم} إليه تعالى و{حسابهم} عليه سبحانه فإنهما أمران مستمران وفي تصدير الجملتين بـ: {إن} وتقديم خبرها والإتيان بضمير العظمة وعطف الثانية على الأولى بـ: {ثم} المفيدة لبعد منزلة الحساب في الشدة من الإنباء عن غاية السخط الموجب لشديد العذاب ما لا يخفى.
وفي الآية رد على كثير من الشيعة حيث زعموا أن حساب الخلائق على الأمير كرم الله تعالى وجهه واستدلوا على ذلك بما افتروه عليه وعلى أهل بيته رضي الله تعالى عنهم أجمعين من الأخبار ومعنى قوله كرم الله تعالى وجهه أنا قسيم الجنة والنار إن صح أن الناس من هذه الأمة فريقان فريق معي فهم على هدى وفريق على فهم على ضلال فقسم معي في الجنة وقسم في النار ولعلهم عنوا أن علياً كرم الله تعالى وجهه يحاسب الخلائق بأمره عز وجل كما يقول غيرهم بأن الملائكة عليهم السلام يحاسبونهم بأمره جل وعلا وهو معنى لا ينافي الحصر الذي تقتضيه الآية لكنه لم يثبت وأي خصوصية في الأمير كرم الله تعالى وجهه من بين جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين عليهم الصلاة والسلام أجمعين تقتضيه ولا نقص له كرم الله تعالى وجهه في نفي ذلك عنه ويكفيه رضي الله تعالى عنه من ظهور شرفه يوم القيامة أنه يزف إلى الجنة بين النبي وإبراهيم عليهما وعليه الصلاة والسلام كما جاء في الحديث إلى غير ذلك مما يظهر في ذلك اليوم والله تعالى أعلم. اهـ.